ان العين لتدمع وان القلب ليحزن وانا لفراقك يا شيخنا لمحزونون و{ إنا لله وإنا إليه راجعون }، هكذا يغيب الموت علما من اعلام هذه الامة، ويغطي الظلام نجما من نجومها، انه الشيخ العلامة الدكتور عبدالله بن جبرين يرحمه الله احد ابرز كبار العلماء في العالم الاسلامي।
توفي سماحة شيخنا العلاَّمة الزاهد الفقيه الداعية الشيخ الوالد عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن جبرين، رحمه الله رحمة واسعة، وبلَّغه منازل النبيين والصديقين والشهداء، وقد فقدته الأمة في زمن هي أحوج ما تكون فيه إلى العلماء المصلحين. إن لفراق العلماء لوعة ولذعة وروعة؛ يجدها الطلاب والمحبون عند المصيبة؛ تسخن له الدموع، وتنقبض له القلوب، وتوجل منه النفوس، وليس لذي الرأي والدين حينها؛ إلا أن يرعوي لجميل الصبر، وكريم العزاء، واحتساب أجر المصيبة، والسعي في احتمال نصيبه من الإرث العلمي والدعوي من (تركة العلماء)؛ على أن يكون هذا الحِمل العلمي والدعوي زاداً في سير المسلم وسعيه إلى الله والدار الآخرة؛ وذلك بعمارة الدنيا، والقيام بواجب الاستخلاف فيها، وبناء الحياة، التي يوشك الباقي منها أن يفنى، والحي فيها أن يموت. والشيخ - رحمه الله - كان مضرب الأمثال في سعة العلم، وتنوّع المعارف، ودقة الفهم، وسعة المحفوظ، في أبواب الفقه والتفسير والتوحيد والعقائد والأدب والتاريخ وغير ذلك من العلوم. وهذا باب لا يشهد عليه مثلي، ولكن ها هم طلابه فسألوهم، وتلك مدوناتهم فاستظهروها. إلا أن الغرة اللائحة في حياة الشيخ - رحمه الله - تمثّلت في كريم سجاياه، وحسن أخلاقه، ورحمته بالمساكين، وشفقته بالمحاويج، وسعيه في قضاء الحوائج، وبذله للشفاعات، وإجابته للسائلين، وحضوره للمحافل، وعيادته للمرضى، ومشاركته في تعزية أهل الميت أكثر من مرة أحياناً، كل ذلك مع رفق ولين، وخفض للجناح. ومع ذلك؛ فإن عموم مواقف البر والإحسان في الحياة الإنسانية، ومواقف تفريج الكروب، والمشاركة في تنفيسها، ومعاني الرحمة التي تكتنفها، وتقاسيم السعادة في وجه المكروبين؛ تقصر دون وصفها العبارة، وتعجز عن بيانها الكلمات. وإذا كان المرء المسلم لا يضيره ضعف حظه من العلم إذا وفر حظه من الأخلاق؛ فإن الشيخ - رحمه الله - قد جمع الحسنيين، وحاز الفضل مرتين؛ إذ إن من أبرز أخلاقه رحمه الله - مع ما كان عليه من علم وكبر سن - ذلكم الخلق الذي يتأبَّى على الكبراء المداومةُ عليه إلا من رحم الله، ذلكم الخلق العزيز؛ خلق التواضع، الذي هو سجية أهل العلم والبصيرة في الدين والدنيا. أذكر للشيخ - رحمه الله - موقفاً لطيفاً من هذا الباب؛ وذلك بعد أن انتهى الشيخ - رحمه الله - من أحد دروسه في أحد المساجد، جاءه أحد كبار جماعة ذلك المسجد، وطلب من الشيخ أن يزوره في بيته، فاعتذر الشيخ منه بعد أن بيَّن عذره وطيَّب خاطره بالدعاء له ولذريته، إلا أنه أعاد طلبه على الشيخ، فما كان من الشيخ إلا أن قّبِلَ دعوته، وحدَّد له موعداً قبل صلاة المغرب بنصف ساعة من اليوم نفسه، مع أنه قد كان للشيخ - رحمه الله - في ذلك اليوم ستة دروس. وفي الموعد؛ اجتمع في مجلس المضيف: الشيخ - رحمه الله - وأحد أبنائه وثلاثة من طلابه، والمضيف وأبناؤه، وبعد السلام أخذ المضيف يعرّف أبناءه للشيخ ويذكر له وظائفهم ومراحلهم الدراسية، وكم للمتزوج منهم من الأولاد، ومتى قدم للرياض، ولماذا اختار هذا الحي... وأخذ يستطرد في ذكر وظيفته، وحاله بعد التقاعد منها، ونحو ذلك. ولا أزال أذكر ابتسامة الشيخ - رحمه الله -، وإظهاره السرور بما يسمع، يستحثه بذلك على الاستمرار، ولما انتهى المضيف مما أحب أن يذكره، دعا له الشيخ - رحمه الله - ولاطفه في الكلام، ثم بدأ - رحمه الله - يقابل المضيف في حديثه عن نفسه، فأخذ يعرِّف له أبناءه، ويذكر له وظائفهم وأعمالهم، ومتى قدم إلى الرياض، وأين أول مسكنه فيها... إلى آخر كلامه - رحمه الله - مما يناسب حال المضيف؛ وعجبتُ أكثر حين علمت أن الشيخ يقابل مضيفه لأول مرة.. فعجبت من (ذوق هذا العالم الرباني)، وعظيم أدبه، وكمال مروءته، وحسن مراعاته لمشاعر جليسه، مع مسايرته لخلجات النفوس، وفطنته لحركاتها. وقديماً قيل: (من كمال المرء حسن مفاكهته لإخوانه). مع يقيني أن مثل هذه المواقف؛ لا تثير العجب في نفوس طلاب الشيخ ومحبيه؛ لما اعتادوه من شمائله وأخلاقه، وهكذا الأصول عن مغارسها تنمو. جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لا يكون الرجل عالماً حتى لا يحسد من فوقه، ولا يحقر من دونه، ولا يأخذ على علمه أجراً). وتعدد دروس الشيخ - رحمه الله - وكثرة مشاغله، لا تنسيه حوائج الضعفة والمساكين، وإن صغرت؛ فقد يجلس الشيخ في مجلسه بعد العصر مثلاً، ليستقبل حاجات الناس وأسئلتهم في مجلسه أو عبر الهاتف، وقد تبلغه حاجة محتاج أو أرملة عبر الهاتف، فيعجِّل لهم حاجتهم ويستحثهم على زيارته قبل المغرب، فإذا طرأ على الشيخ ما يوجب خروجه من منزله؛ فإنه لا ينسى تلك الحوائج، بل يأمر من ينتظرهم ويستقبلهم. كل هذه الأخلاق الحسنة؛ تظهر في مواقف الشيخ على سجيتها، بلا تكلّف ولا تزيُّد. عظَّم الله الثواب، وأحسن العزاء، وما عند الله خير للأبرار، ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يغفر لمشايخنا المتقدمين، وأن يزيد علماءنا الباقين بركةً إلى البركة التي معهم، وأن يجعل بقاءنا مسارعة للخيرات، وأن يجمعنا بهم ووالدينا ومن نحب في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء الصالحين وحسن أولئك رفيقاً, وما أحسن العزاء في قول عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - في مرض موته: (ونعم المذهوب إليه ربي).
توفي سماحة شيخنا العلاَّمة الزاهد الفقيه الداعية الشيخ الوالد عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن جبرين، رحمه الله رحمة واسعة، وبلَّغه منازل النبيين والصديقين والشهداء، وقد فقدته الأمة في زمن هي أحوج ما تكون فيه إلى العلماء المصلحين. إن لفراق العلماء لوعة ولذعة وروعة؛ يجدها الطلاب والمحبون عند المصيبة؛ تسخن له الدموع، وتنقبض له القلوب، وتوجل منه النفوس، وليس لذي الرأي والدين حينها؛ إلا أن يرعوي لجميل الصبر، وكريم العزاء، واحتساب أجر المصيبة، والسعي في احتمال نصيبه من الإرث العلمي والدعوي من (تركة العلماء)؛ على أن يكون هذا الحِمل العلمي والدعوي زاداً في سير المسلم وسعيه إلى الله والدار الآخرة؛ وذلك بعمارة الدنيا، والقيام بواجب الاستخلاف فيها، وبناء الحياة، التي يوشك الباقي منها أن يفنى، والحي فيها أن يموت. والشيخ - رحمه الله - كان مضرب الأمثال في سعة العلم، وتنوّع المعارف، ودقة الفهم، وسعة المحفوظ، في أبواب الفقه والتفسير والتوحيد والعقائد والأدب والتاريخ وغير ذلك من العلوم. وهذا باب لا يشهد عليه مثلي، ولكن ها هم طلابه فسألوهم، وتلك مدوناتهم فاستظهروها. إلا أن الغرة اللائحة في حياة الشيخ - رحمه الله - تمثّلت في كريم سجاياه، وحسن أخلاقه، ورحمته بالمساكين، وشفقته بالمحاويج، وسعيه في قضاء الحوائج، وبذله للشفاعات، وإجابته للسائلين، وحضوره للمحافل، وعيادته للمرضى، ومشاركته في تعزية أهل الميت أكثر من مرة أحياناً، كل ذلك مع رفق ولين، وخفض للجناح. ومع ذلك؛ فإن عموم مواقف البر والإحسان في الحياة الإنسانية، ومواقف تفريج الكروب، والمشاركة في تنفيسها، ومعاني الرحمة التي تكتنفها، وتقاسيم السعادة في وجه المكروبين؛ تقصر دون وصفها العبارة، وتعجز عن بيانها الكلمات. وإذا كان المرء المسلم لا يضيره ضعف حظه من العلم إذا وفر حظه من الأخلاق؛ فإن الشيخ - رحمه الله - قد جمع الحسنيين، وحاز الفضل مرتين؛ إذ إن من أبرز أخلاقه رحمه الله - مع ما كان عليه من علم وكبر سن - ذلكم الخلق الذي يتأبَّى على الكبراء المداومةُ عليه إلا من رحم الله، ذلكم الخلق العزيز؛ خلق التواضع، الذي هو سجية أهل العلم والبصيرة في الدين والدنيا. أذكر للشيخ - رحمه الله - موقفاً لطيفاً من هذا الباب؛ وذلك بعد أن انتهى الشيخ - رحمه الله - من أحد دروسه في أحد المساجد، جاءه أحد كبار جماعة ذلك المسجد، وطلب من الشيخ أن يزوره في بيته، فاعتذر الشيخ منه بعد أن بيَّن عذره وطيَّب خاطره بالدعاء له ولذريته، إلا أنه أعاد طلبه على الشيخ، فما كان من الشيخ إلا أن قّبِلَ دعوته، وحدَّد له موعداً قبل صلاة المغرب بنصف ساعة من اليوم نفسه، مع أنه قد كان للشيخ - رحمه الله - في ذلك اليوم ستة دروس. وفي الموعد؛ اجتمع في مجلس المضيف: الشيخ - رحمه الله - وأحد أبنائه وثلاثة من طلابه، والمضيف وأبناؤه، وبعد السلام أخذ المضيف يعرّف أبناءه للشيخ ويذكر له وظائفهم ومراحلهم الدراسية، وكم للمتزوج منهم من الأولاد، ومتى قدم للرياض، ولماذا اختار هذا الحي... وأخذ يستطرد في ذكر وظيفته، وحاله بعد التقاعد منها، ونحو ذلك. ولا أزال أذكر ابتسامة الشيخ - رحمه الله -، وإظهاره السرور بما يسمع، يستحثه بذلك على الاستمرار، ولما انتهى المضيف مما أحب أن يذكره، دعا له الشيخ - رحمه الله - ولاطفه في الكلام، ثم بدأ - رحمه الله - يقابل المضيف في حديثه عن نفسه، فأخذ يعرِّف له أبناءه، ويذكر له وظائفهم وأعمالهم، ومتى قدم إلى الرياض، وأين أول مسكنه فيها... إلى آخر كلامه - رحمه الله - مما يناسب حال المضيف؛ وعجبتُ أكثر حين علمت أن الشيخ يقابل مضيفه لأول مرة.. فعجبت من (ذوق هذا العالم الرباني)، وعظيم أدبه، وكمال مروءته، وحسن مراعاته لمشاعر جليسه، مع مسايرته لخلجات النفوس، وفطنته لحركاتها. وقديماً قيل: (من كمال المرء حسن مفاكهته لإخوانه). مع يقيني أن مثل هذه المواقف؛ لا تثير العجب في نفوس طلاب الشيخ ومحبيه؛ لما اعتادوه من شمائله وأخلاقه، وهكذا الأصول عن مغارسها تنمو. جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لا يكون الرجل عالماً حتى لا يحسد من فوقه، ولا يحقر من دونه، ولا يأخذ على علمه أجراً). وتعدد دروس الشيخ - رحمه الله - وكثرة مشاغله، لا تنسيه حوائج الضعفة والمساكين، وإن صغرت؛ فقد يجلس الشيخ في مجلسه بعد العصر مثلاً، ليستقبل حاجات الناس وأسئلتهم في مجلسه أو عبر الهاتف، وقد تبلغه حاجة محتاج أو أرملة عبر الهاتف، فيعجِّل لهم حاجتهم ويستحثهم على زيارته قبل المغرب، فإذا طرأ على الشيخ ما يوجب خروجه من منزله؛ فإنه لا ينسى تلك الحوائج، بل يأمر من ينتظرهم ويستقبلهم. كل هذه الأخلاق الحسنة؛ تظهر في مواقف الشيخ على سجيتها، بلا تكلّف ولا تزيُّد. عظَّم الله الثواب، وأحسن العزاء، وما عند الله خير للأبرار، ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يغفر لمشايخنا المتقدمين، وأن يزيد علماءنا الباقين بركةً إلى البركة التي معهم، وأن يجعل بقاءنا مسارعة للخيرات، وأن يجمعنا بهم ووالدينا ومن نحب في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء الصالحين وحسن أولئك رفيقاً, وما أحسن العزاء في قول عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - في مرض موته: (ونعم المذهوب إليه ربي).